وقد اختفت الحكمة من جعل النخيل تحف البستانين عن كثير من الناس، فجاءت نتائج الدراسات والأبحاث لتكشف النقاب عن شيءٍ من جوانب هذه الحكمة، فعرف الناس فوائد تنوع النباتات في المزارع والغابات، وعرف الناس أيضاً فوائد الأحزمة الخضراء، الأمر الذي أدى إلى التوسع في استخدامها في هذا العصر، ليس لتحمي المزارع والبساتين وحسب، وإنما لتحمي المدن كذلك من زحف الرمال. وقد دلت التجارب المختلفة المتعلقة بحماية المدن والقرى من زحف الرمال المتحركة بواسطة وسائل وطرق مختلفة أن إقامة الأحزمة الخضراء والتشجير عموماً قد أثبت جدواه وفاعليته، وأن هذه الطريقة تتميز بفاعلية جيدة في وقف زحف الرمال على جميع الطرق الأخرى، وتطبيقها يعتبر الأيسر مقارنة بالطرق الأخرى، حيث ظهر من هذه التجارب أن الوسائل الأخرى لا تعتبر إلاَّ إجراءات مؤقتة تؤدي إلى تثبيت الكثبان الرملية المتحركة بشكل مؤقت، بحيث أن التشجير وزراعة الكثبان الرملية المتحركة بالنباتات الرملية Psammophytes التي تشمل الأشجار والشجيرات والأعشاب المتميزة بقدرتها على ملاءمة ظروف التربة الرملية والمناخ المتطرف وفقر التربة بالأملاح المعدنية والمركبات العضوية، والتي تتميز أيضاً بجذورها التي تنمو عميقاً إلى الطبقة الرطبة أو تنتشر على سطح الأرض، فتعمل بذلك على تماسك التربة.
وتعتبر المملكة العربية السعودية من الدول الرائدة في مكافحة زحف الكثبان الرملية حيث أقامت مشروعاً يعتبر من أهم مشاريع مكافحة الكثبان الرملية في الوطن العربي وهو مشروع مكافحة الكثبان الرملية في الأحساء، الذي هدف إلى وقف حركة الكثبان الرملية وتثبيتها واستصلاح الأراضي التي فقدت أو تدهورت تربتها.
3 ـ تحافظ على وجود الماء في التربة
من المعروف أن نوع وتركيب جذور النباتات، وعمق امتدادها في التربة يختلف باختلاف النباتات، فبعضها يمتد على سطح التربة، والبعض يمتد في عمق التربة لمسافة قصيرة، والبعض الآخر يغوص كثيراً في عمق التربة. وجميع الجذور النباتية تترك في التربة ما تفرزه من مواد كيميائية عضوية أو ما يبقى منها من جذيرات وجذور ميتة وبقايا عضوية مختلفة، فتتحلل وتتفكك بواسطة الكائنات الحيّة الدقيقة، فيعمل ذلك على إضافة المواد أو المركبات العضوية في التربة وهو ما يصطلح عليه علمياً بزيادة المحتوى العضوي. وللمركبات العضوية قدرة عالية جداً على امتصاص الماء والإمساك به، ولجذور النباتات وخاصة تلك التي تمتلك جذوراً ذات قدرة عالية أيضاً على تخزين الماء بكميات كبيرة. وبهذا تعمل على زيادة المحتوى العضوي في التربة وجذور النباتات على زيادة كفاءة التربة للحفاظ على الماء فيها والإمساك به، عند مستوى السطح وفي أعماق التربة التي تصل إليها الجذور.
لذا فإنه في حالة انقطاع الأمطار وانقطاع وصول الماء إلى النباتات، فإن النباتات المتنوعة تخدم بعضها بعضاً لتتحمل هذه الظروف القاسية، فتبقى النباتات حيّة زمناً أطول عند تعرضها لمثل هذه الظروف، ومن هنا فإن التنوع الأحيائي يسهم في المحافظة على استمرار الحياة في الغابات وفي البيئات الزراعية.
ومما تقدم يظهر لنا النفع والفائدة من جعل أشجار النخيل على حواف البساتين، فهي تقوم بحماية الزرع من الرياح والعواصف، وتحمي التربة من التعرية وزحف الرمال عليها، وتحافظ على وجود الماء في التربة.
الفائدة الخامسة: تنوع النباتات يوفر مأوى ومسكناً يُلائم تنوع الكائنات الحية:
إن تنوع النباتات في البيئة لا يخدم الإنسان وحسب، وإنما يخدم جميع الكائنات الحية التي أوجدها الله سبحانه وتعالى في البيئة، فالأنواع المختلفة من النباتات توفر قوتاً ومأوىً يتناسب مع تنوع الكائنات الحيّة، حشرية وحيوانية وطيوراً. وقد يظن البعض أن توفر القوت والمأوى للكائنات الحية المختلفة يعني تحقيق وجود الأسباب التي تضر بالأشجار والنباتات وتؤذي البيئة. وهذا الأمر يبتعد عن الصواب، فليست كل الكائنات الحية التي أوجدها خالق الكون جلت قدرته في البيئة ضارة ومؤذية، بل إن الغالبية العظمى منها لها فوائد عديدة لا حصر لها تفيد الإنسان وتفيد البيئة.
الفائدة السادسة: إعاقة انتشار الحريق
أما الفائدة السادسة من تنوع النباتات في البيئة، فهي إعاقة انتشار الحريق في حالة اندلاعه أو احتراق أحد أو بعض النباتات، إذ إن التنوع الأحيائي الطبيعي في النباتات لا يسمح بسقوط أوراق جميع الأشجار في وقت واحد، فكل نوع تتساقط أوراقه في وقت موسمي محدد، ومن هنا فإن وجود نوع واحد من الأشجار في غابة ما، يعمل على تساقط أوراق كل هذه الأشجار في زمن وموسم واحد، فتتغطى أرض الغابة بطبقة سميكة من الأوراق التي تجف بعد ذلك، ومتى ما تعرضت لشعلة نارية أو برق، اشتعلت بسرعة، وتسببت في حريق الغابة. ولذلك يكون معدل الحرائق في الغابات التي تحتوي على نوع واحد من الأشجار أعلى كثيراً من معدل الحرائق التي تسجل في الغابات الطبيعية ذات التنوع الأحيائي الكبير، ومن هنا فإن تنوع الأشجار والنباتات في الغابة الصناعية أو الطبيعية يعتبر أفضل وسيلة تحدُّ من انتشار الحرائق في الغابات، حيث لا تتعرض جميع الأشجار في وقت واحد لتساقط الأوراق، فإذا ما اندلع حريقٌ عند شجرة جافة، فإن رطوبة واخضرار الشجرة المجاورة لها تشكل عائقاً أمام انتشار النيران.
الفائدة السابعة: التخفيف من الجهد والعناء:
إن تنوع النباتات لا يعمل على تساقط الأوراق على الأرض من جميع الشجر في زمن ووقت واحد، بل يختلف زمن سقوط أوراق النباتات حسب نوع النباتات، فلا تتراكم الأوراق وتتكدس بكميات كبيرة على الأرض. ووجود نوع واحد من النباتات في البيئة أو الحقل، يعني سقوط أوراقه في زمن واحد فيعمل ذلك على تراكم الأوراق بكثرة فيزيد ذلك من الجهد والعناء لمعالجة هذه المشكلة.
الـهـوامـش:
(1) مدخل إلى العلوم البيئية، العودات وزملاؤه، ص 258
(2) الموسوعة العربية العالمية، مج 14، ص 51
(3) الموسوعة العربية العالمية، مج 3، ص 148
(4) هندسة البيئة، فاضل حسن أحمد، ص 537
(5) معاني القرآن وإعرابه، الزجاج، أبو إسحاق إبراهيم بن السري، (ت 311هـ)، مج 3، ص284